تتباهى الدول الأوروبية بشركات طيرانها ومطاراتها، وقطاراتها وخطوط السكك الحديدية التابعة لها، وإنتاجها من السيارات، وأيضًا بطرقها داخل المدن، وكفاءة الطرق السريعة التي تربط بين مدنها المختلفة، هذا بالإضافة إلى العديد من الأشياء الأخرى.
ونحن عن قناعة بأن طائرات شركة مصر للطيران – سواء من طراز البوينج أو الأيرباص – لا تختلف كثيرًا عن طائرات شركة “لوفتهانزا” الألمانية أو شركة الخطوط الجوية الفرنسية “ايرفرانس”، وأن سيارات “المرسيدس” التي تجوب شوارع “التسعين” في التجمع الخامس لا تختلف كثيرًا عن سيارات المرسيدس التي تقطع الطرق الأوروبية، كما أن محلات “كارفور” المنتشرة في المركز التجارية الكبرى في القاهرة والإسكندرية، لا تختلف كثيرًا عن نفس المحلات المنتشرة في باريس وضواحيها.
والغريب أننا في حالة المقارنة بين بعض الأوضاع في مصر وأية دولة أوروبية نفاجئ بالإجابة الجاهزة التي تقول: “ليس هناك مجال للمقارنة”..!!
وقد يكون ذلك حقيقيا، ولكننا في بعض الأحيان قد نكون مضطرون للمقارنة بين بعض الأشياء بهدف التعرف إلى ما توصل إليه العالم من تطور وتكنولوجيا في بعض مناحي الحياة، إذا كانت لدينا رغبة حقيقية في التغيير إلى الأحسن.
وعند مقارنة أوضاع ومستوى السكك الحديدية المصرية، ونظيرتها في الدول الأوروبية، نجد أن الفارق شاسعًا، فلقد أصيبت السكك الحديدية المصرية بالشيخوخة نتيجة لتراكم إهمال الصيانة والتحديث، لمدة تزيد عن ستين 60 عاماً، ما جعلها في قاع الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن، وكان من نتائج ذلك، سجلا حافلا من الحوادث المتعددة التى حصدت أرواح الآف الركاب، كان أخرها الحادث البشع الذي وقع في “محطة مصر”….وهو الحادث الذي شهد اقتحام جرار قطار – بلا سائق – لرصيف أهم محطات مصر، وانفجر بعد أصطدامه بالموانع الخرسانية في نهاية الرصيف،ليحدث مشهدًا أبشع من أي مشاهد أفلام الرعب، حيث تحولت أجساد بعض الركاب ورواد المحطة إلى “كرات من اللهب” التي تهرول مذعورة على سلالم المحطة، أو لجثث متفحمة ملقاه على رصيف المحطة…
وبشأن حوادث القطارات، فهي ظاهرة موجودة في كل دول العالم بلا استثناء، سواء المتحضرة منها أو المتخلفة، غير أن الاختلاف يظهر في نتائج هذه الحوادث بشكل واضح، نظراً لنقص في احتياطات الأمن أو تدنى وسائل الإسعاف والإنقاذ، أو لقصور في وسائل مكافحة الحريق وكفاءة رجال الإسعاف والإنقاذ، فيتحول الحادث بسهولة إلى “كارثة مروعة” في بعض الأحيان.
ولقد أظهر الحادث البشع الذي وقع في “محطة مصر” مؤخرًا تقصير واضح، سواء في طريقة تسيير القاطرات ومراقبتها، أو في وسائل الإسعاف ومقاومة الحريق والتواجد السريع في موقع الحادث.
فلا يمكن أن نتصور عدم وجود نقطة إسعاف أولي، أو وحدة مطافئ مجهزة على أعلى مستوى لمقاومة الحرائق داخل محطة قطار كبيرة وهامة مثل “محطة مصر”، تتفاعل مع الحدث بمهنية وبسرعة لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الضحايا والمصابين في وقت قصير، كما نراه في دول أخرى، وقد يعزو ذلك بالتأكيد إلى نقص تدريب قوات الإطفاء والإسعاف لمواجهة مواقف على نفس قدر الحادث البشع الذي وقع في محطة مصر، وخاصة أن تاريخ السكك الحديدية المصرية هو تاريخ عريق، منذ زمن بعيد.
وتعتبر شركة سكك حديد مصر، هي أول خطوط سكك حديدية يتم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط، والثانية في العالم، بعد خطوط السكك الحديدية البريطانية، ولقد تم إنشاؤها بعد إنشاء السكك الحديدية البريطانية بفترة وجيزة.
فلقد قام الخديوي عباس الأول بتوقيع عقد لإنشاء أول خط سكة حديدية بين القاهرة والإسكندرية مع المهندس الإنجليزي “روبرت ستيفنسون” (نجل الإنجليزي “جورج ستيفنسون” مخترع أول قاطرة تعمل بالفحم) وكان ذلك عام ،1851 وبدء التنفيذ لإنشاء أول خط حديدي في مصر يوم 12 يوليو 1851، وتم تأسيس أول شركة للخطوط الحديدية المصرية عام 1853،وبدء تشغيل أول خط عام 1854 وكان يربط بين القاهرة وكفر الزيات عند أفتتاحه، ثم وصل بعد ذلك إلى الإسكندرية.
ويذكر أن المهندس الإنجليزي “روبرت ستيفنسون” هو من أشرف بنفسه على مشروع إنشاء خطوط السكك الحديدية المصرية.
وتمتلك الآن شركة السكك الحديدية المصرية عدد كبير من القاطرات الألمانية والكندية والأميركية والأسبانية، غير أن عدد لا يستهان بها، معطل لانعدام الصيانة، ونقص قطع الغيار.
ويبلغ طول شبكة خطوط السكك الحديدية المصرية حوالى 7500 كيلومترًا ، ويعمل بها ما يقرب من 86 ألف شخص.
وحسب التقديرات الأخيرة، فإن السكك الحديدية تنقل ما يقرب من 140 مليون راكب سنويًا، ويبلغ حجم أعمالها، ما يقرب من 2 مليار جنيه بينما تبلغ المصروفات ما يقرب من خمسة مليارات جنيه.
وبحسب تصريح رئيس قطاع الحسابات الختامية بوزارة المالية، فإن خسائر الهيئة القومية للسكك الحديدية وصلت إلى قيمة 10 مليارات جنيه خلال العام المالي 2017 – 2018 ، وإن خسائر هيئة السكك الحديدية تمثل ما يقرب من 40% من حجم خسائر الهيئات الاقتصادية الخاسرة في مصر والبالغ عددها 16 هيئة وصلت خسائرها لنحو 23 مليار جنيه.
وإذا سمح لنا بالمقارنة بالخطوط الحديدية الفرنسية، فإن طول شبكة السكك الحديدية الفرنسية يبلغ ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومترًا، منها حوالى 16 ألف كيلومتر خطوط كهربائية (قاطراتها تعمل بالكهرباء)، ويبلغ عدد المسافرين على الخطوط الداخلية الفرنسية ما يقرب من 1.1 مليار راكب سنويًا (يبلغ تعداد فرنسا حوالى 65 مليون نسمة).
ويعمل في السكك الحديدية الفرنسية ما يقرب من 150 ألف شخص وحققت الشركة الفرنسية حجم أعمال قدره 33.5 مليار إيرو خلال العام 2017 بزيادة قدرها 3.8% عن عام 2016.
وبلغ حجم أرباحها عن العام 2017 ما يقرب من 1.3 مليار إيرو !!
ومن هنا يظهر الفرق الشاسع بين السكك الحديدية المصرية، ونظيرتها الفرنسية، رغم أن الشركة المصرية للسكك الحديدية كانت رائدة في هذا المجال منذ أكثر من 165 عامًا…!!
توقفت عملية تطوير السكك الحديدية المصرية لأجيال طويلة، واقتصر التحديث والتطوير على تحسين واجهة بعض المحطات، وشراء بعض القاطرات التي تجر ورائها عربات متهالكة لنقل الركاب – غير صالحة للاستخدام الآدمى، في بعض الأحيان، وخاصة على خطوط الصعيد- وهي العربات التي نراها تفتقد للإضاءة وبدون نوافذ زجاجية ولا تصل في موعدها وكل السلبيات الأخرى التي نعرفها جميعا، ولا نريد “الغوص” فيها.
لم تلتفت الحكومات المصرية المتعاقبة لتطوير السكك الحديدية لسببين:
أولهما: أن تكاليف الصيانة والتحديث تعتبر باهظة بالنسبة للحكومة.
ثانياً: لأن الأمر كان لا يهمها.
ولعل السبب الثاني كنت قد أدركته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، عندما التقيت بأحد الوزراء المصريين في باريس، ودار بيننا حوار ودى وهادئ على مائدة العشاء في أحد المطاعم بمنطقة الشانزليزية، وشكوت له من تدنى مستوى القطارات وخدمات السكك الحديدية في مصر.
وقد فاجأتني إجابته عندما قال باستغراب: “من الذي يركب القطار في مصر هذه الأيام “..؟!!
لم أحاول إقناعه بأن السكك الحديدية هي واجهة أية دولة، تمامًا كشركات الطيران والطائرات والمطارات، أو أن عدد ليس بقليل من السياح محبون للانتقال بين المدن عن طريق القطار، وأن السكك الحديدية هي منظومة أساسية في السياحة الداخلية..
غير أنني فضلت أن يتوقف الحديث عند أجابته وتساؤله الذي صدمني وأدهشني.
من ناحية أخرى لا يمكن لنا النظر إلى عملية تحديث وتطوير السكك الحديدية، أو إعادة هيكلة هذه الهيئة من منظور تحديث الخطوط والإشارات والمحطات، وشراء أجهزة تحكم إلكترونية وجرارات وعربات جديدة فقط، دون النظر إلى أهم عنصر في أية مؤسسة أو هيئة، وهو “العنصر البشري” الذي يقوم بعملية التشغيل والصيانة بالكامل.
فبعد الحادث البشع الذي وقع في محطة مصر (وكنت متواجدا بالقاهرة في تلك الأثناء) التقيت بعدد كبير من العاملين في هيئة السكك الحديدية – سواء داخل القطارات ما بين القاهرة والاسكندرية، أو من العاملين في محطة مصر نفسها بالقاهرة، وأيضا في محطة سيدي جابر في الإسكندرية، وما لفت نظري في حديثهم، هو إجماعهم على جملة واحدة وهي “الشعور العام بالظلم” وهذا الشعور الضخم تردد كثيرا بين جميع من ألتقيت بهم، فهم يعانون من تدني مرتباتهم أمام تضخم وأرتفاع في أسعار وأعباء المعيشة، وحصول بعض الموظفين في الهيئة على مرتبات شهرية تتجاوز مبلغ سبعين وثمانين ألف جنيه شهريا، مقابل مرتباتهم التي لا تتجاوز مبلغ ألفين أو ثلاثة الآف جنيه شهريا..!!
وهم يتسائلون – ولهم الحق في ذلك – إذا كانت الهيئة تخسر، وهناك مطلب أن يتحمل جميع العاملين نتيجة ذلك، فليسري هذا على الجميع، وكيف يمكن تفسير هذا التمييز في داخل الهيئة..؟
وبالعودة إلى حادث “محطة مصر”، فهو ليس الحادث الأول في سجل الحوادث الغريبة والعجيبة التي تتميز بها السكك الحديدية المصرية، فهناك مسلسل فريد للكوارث والمآسي، التي شهدها ركاب السكك الحديدية، ابتداء من حادث سقوط سيدة من “تواليت” إحدى عربات القطار أثناء سيره، مرورًا بحوادث قطار العياط وحادث البدرشين وقطار منفلوط وقطار دهشور، وغيرها من الحوادث.
غير أن الحادث الأخير، أظهر عيبًا خطيرًا وجديدا لم نراه من قبل في جرارات القطارات!! وهي الجرارات التي يمكن لها أن تتحرك في غياب السائق..!! وهو الأمر الذي يشكل خطرًا بالغًا، قد يسمح لأي إرهابي بتشغيل أية قاطرة وتوجيهها لتنطلق تجاه أي قطار آخر أو محطة، لتكون بمثابة قنبلة تنفجر في أي لحظة وتسبب كارثة أخرى بمعنى الكلمة!
وعلى المسئولين والمهندسين في هيئة السكك الحديدية، سرعة التعامل مع هذا العيب الفني الخطير، وإدراك الخطر المحتمل من التهاون في علاج ذلك على أسرع وجه، والعمل على إصلاح القاطرات فورًا لتجنب مزيد من الحوادث، وخاصة أن جميع القاطرات الحديثة المعروفة والمصرح بتشغيلها دوليًا، لا يمكن لها أن تتحرك في غياب قائدها.
وفي النهاية فإن المجهود الضخم الذي قام به المهندس “هشام عرفات” (وزير النقل الذي قدم استقالته) لا يجب إهماله، وخاصة أن نتيجة كل الاستثمارات والأعمال التي بدأها في تطوير السكك الحديدية لم تثمر بعد، وستظهر أولى ثمارها منتصف العام الجاري وخلال العام القادم 2020.
وبالرغم من ضخامة حجم الأموال والاستثمارات التي خصصت للسكك الحديدية المصرية مؤخرًا، فإن الحكومة المصرية لم تنفق جنيهًا واحدًا من الميزانية، وجميع هذه الاستثمارات جاءت عن طريق قروض أجنبية من البنك الدولي (وليس صندوق النقد الدولي) والصندوق العربي للتنمية والصندوق الكويتي.
وجميع هذه الديون والقروض سيبدأ سدادها بعد فترة سماح طويلة (عشرة سنوات)، لتمثل أرثا وعبئًا جديدًا على الأجيال القادمة..!
والسؤال الآن: إذا كانت كل الاستثمارات الضخمة التي خصصت للسكك الحديدية عبارة عن قروض وديون خارجية من البنك الدولي، والصندوق العربي والصندوق الكويتي وغيرها، فلماذا انتظرت الحكومات المصرية المتعاقبة كل هذه السنوات لتبدأ عملية كان من المفترض أن تقوم بها منذ عشرات السنين ..؟؟!!
المقارنة شيئ هام يستفاد منها لرؤية جديدة ولفكر مختلف، ولابد من الاعتراف بفشل منظومة الصيانة وسياسة اللصق والزقز. السبب الرئيسى فى فشل الإدارة فى عدد من القطاعات فى مصر هو سوء ترتيب الأولويات. فلا يصح أستهلاك موارد الدولة فى أشياء لا تعود مباشرة على المواطن المحتاج. يضحى بالمواطن ونكتفى بسعيكم مشكور وننسى كل شيئ !!
أحييك علي هذا المقال مهندس رشدي.