نافذة الحرية

الرئيس الموعود .. والحشد المفقود ..!!

بقلم مهندس/ رشدي الشافعي

الجاليات المصرية في أوروبا لها خصوصيتها التى تختلف عن طبيعة الجاليات المصرية في الدول العربية وبعض الدول الأخرى.

فالجاليات المصرية في الدول العربية ودول الخليج – مثلاً تجتمع في كثير من المناسبات، في السفارات أو القنصليات، ويكون ذلك بمثابة مناسبة لاختيار مندوبين عن الجالية، ممثلين في رئيس ومجلس إدارة للجالية، ويمثل هذا المجلس الجالية بصورة حقيقية، ويعتبر همزة وصل بين أبناء الجالية والمسئولين المصريين والدبلوماسيين هناك مما يسهل كثير من الأمور الخاصة بهم، وإنجاز طلبات أبناء الجالية في هذه الدول والتي ترتبط أرتباطا وثيقا بالإدارة المصرية ممثلة في التمثيل القنصلي هناك.

أما في أوروبا، فإن الأمور تختلف قليلا فيما يتعلق بتمثيل المصريين، وخاصة أن القوانين في الدول الأوربية والأوضاع الإجتماعية، تسمح بتكوين ما يسمى “مؤسسات المجتمع المدنى”، أو “الجمعيات الأهلية”، بسهولة وطبقًا لقوانين معمول بها منذ سنوات عديدة.

ويهمني هنا أن أتطرق لتجربة الجالية المصرية في فرنسا، والجمعيات الأهلية التى انشأت بهدف تجميع المصريين – أو بعض منهم بصورة ما – وتكوين عدة تجمعات مصرية، سواء في باريس أو عدة مدن فرنسية أخرى.

فهناك قانون فرنسى صدر عام ١٩٠١ يسمح بتكوين “الجمعيات الأهلية” بعد استيفاء بعض الإجراءات الإدارية، كالنشر في الجريدة الرسمية، والتسجيل في أحد الإدارات التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية، بعد توضيح الأهداف واللائحة الداخلية للجمعية، مع شرط ألا يقل أعضاء مجلس إدارة هذه الجمعية عن ثلاث أشخاص ..!

وجاء هذا القانون وبساطة الإجراءات لتكوين الجمعيات، بهدف رغبة السلطات الفرنسية أن تعمل هذه التكتلات أو التكوينات أو الجمعيات في “النور”، بعيدًا عن شكل “المنظمات السرية”، لسهولة الإشراف عليها.

وهناك نماذج ناجحة جدًا ومشرفة للجمعيات الأهلية في فرنسا التى تخضع لهذا القانون، من بينها جمعيات معروفة عالميًا ودوليًا مثل: منظمة “الصليب الأحمر” أو جمعية “أطباء بلا حدود”.

وبالعودة إلى “الجمعيات الأهلية المصرية” في فرنسا، فلقد تكون في السنوات القليلة الماضية عدد لا بأس به من الجمعيات المصرية، التي أخذت مسميات عديدة، وهو موضوع إيجابى يسمح بتكوين مجموعات متآلفة لها آراء واهتمامات متقاربة، تقيم علاقات طيبة فيما بينها، ويعتبر ذلك إضافة لمصر وللمصريين المقيمين في فرنسا، بالإضافة إلى أنه يزيد من رصيد القوة الناعمة لمصر في الخارج عمومًا وفرنسا على وجه الخصوص إذا أردنا النظر إلى الجانب الإيجابي من هذه التكوينات.

وفي ظل تزايد أعداد تلك الجمعيات، وبهدف التنسيق فيما بينها كانت هناك عدة تجارب لمحاولة إنشاء تكوين يجمع بين كل هذا الشتات، أهمها المبادرة التى أشرفت عليها السفيرة ناهد العشرى عام ٢٠٠٦ بإنشاء تكوين واحد يربط بين كل هذه الجمعيات.
ونجحت هذه التجربة في البداية واستمرت لفترة، لكن سرعان ما أن تبدلت الأحوال، وكما يقول المثل “جرت في الأنهار مياه كثيرة” منذ ذلك الحين، وأختفى هذا الترابط الذي كاد أن ينجح.

كل هذا جميل.. لكن ما هى المشكلة التى تواجه الجالية المصرية في فرنسا الآن؟

حقيقة الأمر أن هناك نوع يمكن أن نطلق عليه “حالة من التشرذم” أو الانقسام أو “المنافسة السلبية” يتزعمها عدد من الزملاء الذين يدعى كل منهم أنه “رئيس الجالية”.

وهناك أعداد من هؤلاء الذين يلتقون بالمسئولين في مصر – سواء في وزارة الهجرة أو غيرها – والذين يقدم كل منهم نفسه على اعتبار أنه “رئيس الجالية” في الدولة الفلانية ..!!

وهو الأمر الذي يؤثر بصورة سلبية على المصريين في الخارج بصفة عامة، ويضع المسئولين في مصر، في حيرة من أمرهم، للتعامل مع هذه الظاهرة الغريبة المتفشية في بعض الدول، وخاصة الأوروبية منها.

وما يثير غضب واشمئزاز بعض أبناء الجالية، هو أن يظهر عليهم بعض من هؤلاء الأشخاص، في أجهزة الإعلام، سواء في التليفزيون أو الصحافة، ليقدم كل منهم نفسه على أنه “رئيس الجالية”، بينما أبناء الجالية، ليسوا على علم ببعض من هؤلاء المدعين بالرئاسة، ولم يتم تفويضهم من قبل الجالية..!! بل يكفي أن ينشئ “شخص ما” جمعية بإسم “الجالية في دولة كذا” ويكون هو رئيسها، ليدعي بعد ذلك أنه ” رئيس الجالية” ..!!

وهى “كذبة” قد تتغاضى عنها بعض أجهزة الإعلام، طالما أن هذا الشخص يدلى بأقوال أو “تصريحات” – إن كان يمكن تسميتها كذلك –  تتفق مع آراء وهوى الوسيلة الإعلامية..!!

لا يوجد في فرنسا ما يمكن تسميته “رئيس الجالية”

من غير المعقول أو المقبول، أن يقوم أي شخص أو جمعية ما، بإستغلال إحدى المسميات القريبة من اسم “الجالية”، لإدعاء أنها تتحدث باسم “جميع أبناء الجالية المصرية في فرنسا” ككل، والتعبير عن موقفهم أو آرائهم في وسائل الأعلام، دون الرجوع إليهم – وكأن الجالية ترضخ تحت نظام ستاليني ديكتاتوري ولهم رأي واحد – وهو أمر مرفوض ويعتبر سطو على أرادتهم.

وعملية الإدعاء “برئاسة الجالية” أمام “الرفض الصامت” لأغلبية أبناء الجالية، هو أمر معروف و”كذبة مكشوفة”، أمام جميع المسئولين على أرض الواقع في فرنسا.

وهو الأمر الذى يدفع أعضاء السلك الدبلوماسى بصفة عامة إلى العزوف عن حضور أية لقاءات أو ندوات تقوم بها أية جمعية، خشية أن ينسب إليها دعم طرف على حساب أطراف أخرى.

وبالإضافة إلى أن عملية الإدعاء ب”رئاسة الجالية” هي محل إستنكار كبير من معظم أبناء الجالية المصرية في فرنسا، فإنها في ذات الوقت، تعتبر أيضا منبع للخلافات الحادة بين الأطراف والخصوم، التي تود “الإستيلاء” على هذا اللقب بغية الظهور أو “تخليص مصالحها” هنا وهناك أو لدى بعض المسئولين.

وفي ظل حالة التناحر والخلاف على من هو الأجدر ل “تمثيل الجالية” ؟ أو من هو “رئيسها” الذي يستحق هذا اللقب؟ فإن أبناء الجالية الحقيقيون يشعرون باليأس من علاج هذا “المرض” المزمن، وسئموا من هذا الأسلوب الذي يبتعد عن جوهر العمل العام، في ظل إنجازات معدومة لهؤلاء “القمم”، و”تصريحات” بعيدة عن الواقع، ووعود بتنفيذ أوهام لم يتحقق “فتات” منها، وعدم القدرة على إيجاد وسيلة لإصطفاف الجالية ولم شملها، ومواجهة حقيقة متطلبات المرحلة.

وتلك الإدعاءات والتصريحات والصورة البراقة والوعود الكاذبة، تتزامن مع نشاط هزيل لا يليق بأسم مصر أو  المصريين، وتتلخص في سباق للبيانات الصحفية للصحف وأجهزة الأعلام بالتأييد والتطبيل وإدعاء الوطنية.

المشكلة التى تواجه الجالية الآن، هى أن بعض هؤلاء المدعين فقدوا مصداقيتهم أمام عدد كبير من أبناء الجالية وليست لديهم الشعبية التى يتحدثون عنها، بل أن “الجالية” انصرفت عنهم وأعطتهم ظهرها منذ فترة طويلة.

ولتلخيص الحالة في فرنسا، فإنه في حقيقة الأمر هناك عدد كبير من الجمعيات المصرية، بمسميات عديدة ومختلفة، منها الجمعيات التي لا تقوم بأي دور يذكر وعدد أعضاؤها محدود، وبعض منها جمعيات جادة تحاول أن تقوم بدور يخدم مصر والمصريين في الخارج ، غير أنه لا يمكن أن نطلق على أي رئيس، لأي جمعية منها (مهما كان أسم الجمعية) أنه “رئيس الجالية” فهي تسمية غير دقيقة، وان كل من يدعي أنه “رئيس للجالية”، ومن على شاكلته، يعلمون تماما أنهم يضحكون على أنفسهم قبل أن يحاولوا خداع الآخرين..!!

أرجعوا لرؤية صور “الحشد” و”الملحمة” ..!!

وكان موضوع الدعوة “للاستفتاء على التعديلات الدستورية” التى جرت أيام 21،20،19 أبريل الماضى، بمثابة اختبار كبير لشعبية هذه “القمم” من رؤساء الجالية ..!

فلقد قامت بعض الجمعيات المصرية في باريس، بعمل ندوات ولقاءات قبل موعد الأستفتاء، بهدف حث المصريين في فرنسا ودفعهم على النزول للمشاركة والتصويت في الأستفتاء، غير أن معظم هذه اللقاءات لم يحضرها سوى أعداد محدودة جدا بل وضعيفة للغاية من أبناء الجالية، ولم تجد صدى مسموع أو إستجابة من أبناء الجالية، وفشل الجميع في إقامة لقاءات على نطاق واسع يليق بجالية كبيرة مثل الجالية المصرية في باريس.

على سبيل المثال لا الحصر، لهذا الفشل الذي عانت منه الجمعيات والإتحادات في حشد المواطنين للنزول والمشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، أن حدث أثناء الحملات التى شاركت فيها الجالية المصرية، للترويج عن المشاركة والتصويت في الاستفتاء، أن أقام أحد “الرؤساء” ندوة بهدف “الحشد” للتصويت للدستور، حضرها عدد محدود جدا، من أبناء الجالية لا يتجاوز عددهم ثلاثين شخصًا.

ونظرًا لأن عملية “الحشد”كانت دون المستوى، فلقد كتب “رئيس الجالية الموعود” على صفحته في شبكة التواصل الاجتماعى (فيس بوك)، بأن جميع من لم يحضروا هذا اللقاء، الذى نظمه “هم من الإخوان أو  الطابور الخامس من الخونة أعداء الوطن”.. !!

وهو هراء يضاف إلى مهزلة “الصور الفوتوغرافية” التي تم نشرها لعمليات “الحشد” أمام السفارة، أيام التصويت للدستور، والتى ظهرت بأعداد ضعيفة للغاية، ولا يمكن أن يطلق عليها كلمة “حشد” إطلاقا، وخاصة إذا نظرنا بإمعان إلى هذه الصور، فأننا لانرى في الغالب أعداد كبيرة تذكر، بل إن معظم الصور تظهر أعدادا من أبناء الجالية لا يتعدى عددهم العشرة أشخاص في كل صورة، وهذه ليست عملية “حشد” كما يتصورون..! ولم يخجل البعض من تسمية صور تجمع سبعة أشخاص وراء علم مصر، بأنها “ملحمة” وطنية … … !!

ونحن لا نهدف هنا الإقلال من مجهود الآخرين، غير أن الصور التي نشرت، ورآها الجميع، كفيلة بأن تتحدث عن نفسها.

ووسط كل هذا التهليل والتضخيم لعمليات “الحشد”، يبلغ “الحزن مداه” بعد معرفة أن عدد من صوتوا في الاستفتاء للدستور في باريس، خلال فترة الثلاث أيام، التي فتحت فيها السفارة لمدة 12 ساعة يوميا، لا يتعدى سوى بقليل عن أربعمائة ناخب فقط..!!

وهى نسبة ضئيلة جدًا، إذا ما قورنت بعدد أبناء الجالية المصرية من المقيمين في باريس.

ومن هنا تظهر أهمية إعادة النظر في العملية التنظيمية للجالية، بعدما أصبح من يدعون عن رغبتهم في جذب المصريين وتجميعهم، هم أنفسهم أكثر العناصر “المنفرة” لتواجدهم في أى محفل أو في أى مناسبة.

وبصورة عامة فإن نظرية “الرئيس الموعود” للجالية المصرية في فرنسا لن تتم قبل عمل مصالحة جماعية بين جميع الأطراف وتكاتف الجميع ممن يهمه الأمر لبناء هيكل لائق بهم.

وهو الشىء الذى يعتبر صعب المنال – على الأقل في الفترة الحالية – ولكن ليس من المستحيل تحقيقه.

مهندس/ رشدي الشافعي

رشدي الشافعي

المهندس رشدي الشافعي
مؤسس ورئيس تحرير جريدة «الحرية» منذ عام 2009.
بكالوريوس الهندسة المدنية «إنشاءات»
كلية الهندسة - جامعة الإسكندرية.
صحفي، مدير مكتب جريدة الجمهورية المصرية
في باريس سابقاً.
رئيس مجلس التعاون المصري- الأوربي.
زر الذهاب إلى الأعلى