ثقافة

بعد أن تاهت القضية..!!

في الذكرى الستين

مهندس/ محي الدين غريب

فى مارس 1987كتبت مقال بعنوان “حتى لا تتوه القضية، كان هناك بعض الأمل والتفاؤل، ومع ذلك فإنى دعوت لعدم الاعتدال، بعد أن تأكدت أن الاعتدال التقليدي في مقاومة إحتلال غير تقليدى، لا يجدى ولا يعزى فاقدا عمن فقد. وبالفعل لم تمض شهور قليلة حتى تفجرت الانتفاضة داخل الأرض المحتلة لتدوي عالية وتوقظ ضمير العالم أجمع.

       وفى فى شهر يناير2008  دعيت فى كوبنهاجن إلى ندوة لإحياء الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن تقرر قبل الموعد بأيام قليلة أن تكون الندوة حول القضية الفلسطينية، حوار بين نخبة من الفلسطينين واليهود الذين يعيشون فى الدنمارك. دعيت ولست متأكدا ما اذا كان الغرض هو ان تستغل هذه الندوة للتأكيد على مرور ستين عاما على إنشاء الدولة الإسرائيلية، أم هى محاولة صادقة للحوار لإيجاد حل للقضية؟  

القاعة التى تدار فيها هذه الندوة واحدة من قاعات البرلمان الدنماركى ، تصادف ان تكون هى نفس القاعة التى دعيت فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما للمؤتمر العالمى لسماع دعوى العالم “أندريه زاخاروف” Andrei Sakharov بخصوص حقوق الإنسان وأضطهاد يهود الاتحاد السوفيتى حينذاك. واستغل يهود الدنمارك وقتها هذا الحدث لجذب مزيد من التعاطف،وكانت هذه هى المرة الاولى لمقابلتهم.  

من لقاء الروسي”أندريه زاخاروف”

هذه المرة ومنذ الوهلة الاولى لدخولى القاعة كان من السهل التعرف على معظم الوجوه، كثير من تجاعيد العمر ولكنها تحمل نفس الملامح، بل ومزيد من الثقة والإصرار بين وجوه نخبة اليهود، ومزيد من الأسى والتساهل بين نخبة الفلسطينين. 

وجودنا كل هذه الأعوام بين الشعوب الاسكندنافية ما كان إلا أن يؤكد لنا المرة بعد الأخرى مدى إنحياز هذه الشعوب للكيان الصهيونى الإسرائيلى، بعد أن كاد يقل وينحصر فى السبعينات. 

لاشك أن هناك البعض ممن يناصرون ويساعدون القضية ، ولكن ليسو بالقدر الذى يمكن أن يؤثر تأثيرا فعالا. والدليل على ذلك أن “القضية تاهت” وتخبطت بالرغم من المساعى والمجهودات التى بذلت على مدى ستين عاما.  

والأسباب كثيرة ومتنوعة من بينها الإنحياز التام بصفة عامة من الغرب للوجود الصهيونى الإسرائيلى كقاعدة فى قلب المنطقة العربية لحماية مصالحه، ومن بينها التفكك العربى واستبداد حكامه بالسلطة. 

ما كان تخوفا منذ عشرات السنين من أن تتوه القضية أصبح اليوم حقيقة محزنة. فموقف الأجيال الجديدة من الفلسطينين أصبح أكثر تشاؤما وأكثر تساهلا. فبعد أن كان فى الخمسينيات أصرارا واضحا على رفض شرعية إقامة الدولة الإسرائيليه وضرورة الاطاحة بها، تقلص هذا الإصرار فى الستينيات والسبعينيات إلى الاكتفاء بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولة بجانب دولة إسرائيل، وليتقلص مرة أخرى فى الثمانيات والتسعينيات إلى الاستجداء للعودة إلى حدود ما قبل حرب 1967

فى السنين الاخيرة تخبطت القضية وتبعثرت بين مفاوضات ومؤامرات هنا وهناك وبين تدخل الدخلاء، ليصبح لكل دابة رأى فى حل القضية كل حسب مصلحته الخاصة، لتتوه القضية كلية عندما بدأ الصراع الداخلى بين الفلسطينين أنفسهم وأدخال الدين فى السياسة. وهو ما ظهر سلبا على وجوه النخبة الفلسطينينة فى هذا المؤتمر ، وهو ما أظهر هذا الإصرار على وجوه النخبة اليهودية  رغم مرور كل هذه الاعوام ورغم كل هذه التجاعيد

تخبطت القضية بين صراعات وتطبيع

مع احترامى وتقديرى للجهود المخلصة التى بذلت لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينينة إلا انه على مدى ستين عاما باءت جميعها بالفشل. ولابد أن ثمة خطأ أساسى فى معطيات هذه الجهود كانت ولاتزال وراء الفشل والتخبط وضياع الوقت والجهد والمال وقتل وتشريد مئات الألوف. 

إن الخطأ الأساسى فى معطيات هذه الجهود هو الهدف، فهدف التوصل إلى تعايش سلمى بين دول المنطقة وإسرائيل هو هدف غير واقعى على الأقل على المدى القصير والمتوسط. فلقد فشلت جميع المحاولات بدأ من الحروب والمفاوضات، والتسويات والتنازلات والتطبيع وحتى العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية، فشلت جميعها فى تحقيق أى تقدم للقضية، بل على العكس تعقدت الأمور وتأزمت العلاقات. 

الواقع والحقيقة أن مساندة الغرب المطلقة لإسرائيل عسكريا واقتصاديا ومعنويا هى لأغراض سياسية واقتصادية وقهرية لمنطقة الشرق الأوسط. والواقع أن حالة اللاحرب واللاسلم تساعد إسرائيل على إستكمال مخططها فى تفريق المنطقة ثم احتوائها اقتصاديا ثم سياسيا، بينما تتخبط دول المنطقة فى عمليات الاصلاح والتحديث والتنافس على السلطة والهيمنة. 

هذا الواقع لم يكن من السهل إخفاءه فى حديث نخبة اليهود فى هذه الندوة. هذا الواقع لابد من الاعتراف به وقبوله إلى حين أن تستطيع بلدان هذه المنطقة رفض هذا الواقع، وهذا لن يكون فى المستقبل القريب. وعليه فالحل الأمثل تجنبا لاستنزاف المنطقة بشريا وماديا هو العمل جديا على عزل إسرائيل بتجنبها وتجاهلها ونبذها من جميع الدول المحيطة. سيكون ذلك هو السلاح والورقة الرابحة للضغط علي الغرب وإسرائيل بعيدا عن المواجهة وعن مراوغة المفاوضات، بشرط أن تشترك معظم الدول المحيطة خاصة دول الجوار، وبشرط ألا يقحم الدين فى السياسة. وإذا تحقق ذلك فلن تمر أعوام كثيرة قبل أن تنهار إسرائيل بين عزلتها بينما تستنزفها وتهددها على الأرض المقاومة المشروعة. 

أما الآن وبعد 12 عام من تيه القضية الفلسطينية بسبب حالة الشرذمة المستمرة ورفض الأنظمة الإستبدادية فى المنطقة  لفكرة الإصلاح السياسي، وبعد التطبيع العربى الإسرائيلى المهين، فربما ستضيع القضية إلى غير رجعة.

مهندسمحيى الدين غريب

كوبنهاجن – الدانمارك

محي الدين غريب

مهندس/ محي الدين غريب
كوبنهاجن - الدانمارك
زر الذهاب إلى الأعلى