ثقافة

سطور من كتاب “المحاكمة”…

تأليف مهندس/ محي الدين غريب

سطور من كتاب “المحاكمة” لسنة 2016

غلاف كتاب “المحاكمة” الذي صدر عام 2016 

…….. صديقي مسيو جاك، في العقد السابع من عمره، يبدو من بعيد كهلا أنيقا غامضا، ولكن ما تلبث أن تقترب منه وتتحدث معه إلا وتجده إنسانا عاديا جذابا متنوعا، يأخذك بحديثه أحيانا فإذا به هو حديث من شاب في مقتبل العمر، وأحيانا أخرى هو حديث من عجوز حكيم صقلته خبرة الحياة وأثقلت عليه.

ولأن صداقتنا قديمة، فإننا بمجرد أن نتلاقى ونبدأ في الحوار تسقط حواجز المكان والزمان. ويالها من متعة رائعة أن يتحرر الإنسان ولو لبعض الوقت من بعض هذه الحواجز.

كان الحوار معه سلسا برغم اختلاف الثقافة والدين، فهو ينصت إليك ويعطيك فرصة واسعة للكلام دون مقاطعة، ويجعلك تود أن يطول الحديث معه ساعات وساعات.

وحتى عندما كان يتلعثم أحيانا في الكلام كان وكأنه يحاول متعمدا أن يعطيك فرصة لمقاطعته.


أسطورة الأديان

اليوم هو موعد لقائى مع صديقى مسيو جاك، ولقاؤنا هذه المرة فى مسكنه الأنيق الذى يقع على أطراف المدينة ويطل على مناظر طبيعية خلابة خاصة فى هذا الوقت من العام. لذلك فضلت الذهاب إليه بالقطار لتكون الرحلة نزهة للاستمتاع وأيضا فسحة للاسترخاء الذهنى إستعدادا للمناقشة معه.

تحرك القطار متسللا فى بطىء وكأنه يحاور ضوء الغروب الذى بدأ ينحنى فى هدوء على كل شيئ، وشعاعات الشمس هى أيضا تنسحب الواحدة تلو الأخرى فى لوحة رائعة.

ومع مرور الوقت خفت الضوء شيئا فشيئ ووجدت نفسى متأهبا للنزول من القطار ومنه ترجلت حتى مسكن مسيو جاك الذى قابلنى فى البهو المطل على الحديقة، وكعادته ربت على كتفى ورحب بى بحرارة صادقة.

سألته عما يقرأ هذه الأيام فأشار إلى كتاب صغير وقال: أهملت قراءة هذا الكتاب لأكثر من 40 عام دون أن أعلم أهميته. ربما لصغر حجمه أو رداءة طبعته. يتناول هذا الكتاب الكلام عن المفكر الفرنسى دينيس ديدرو، وفى رأيى أنه من أهم المفكريين، ظهر فى أوائل القرن الثامن عشر وتوج عميد حركة التنوير ومؤسس فلسفة التطور مائة عام قبل داروين ولامارك.

قلت: نعم أتذكر أننى قرأت عنه وله عدة موسوعات فى العلوم والفنون والصناعات، وساعده صديقه فولتير فى إتمام بعضها عندما صودرت لاحتجاج الكنيسة عليها.

قال مسيو جاك: كانت أفكار دينيس ديدرو من أهم المقومات وراء الثورة الفرنسية، ولكنه مات فى سنة 1784 أعواما قليلة قبل قيامها. كما أنه استطاع من خلال كتبه وفلسفته فى ذلك الوقت كشف الروحانية الزائفة والخرافات الجاهلة التى كان يروج لها ويباركها رجال الكهنوت، حتى أنه أودع فى السجن عدة مرات وأحرق البرلمان عددا من كتبه. كان ينفى وجود الشر والشيطان ويؤمن بأن الطبيعة كاملة متكاملة.

قلت : أذكر أننا توقفنا فى حديثنا فى المرة السابقة عما إذا كان الإنسان فى حاجة إلى الرجوع إلى الدين وماهى فائدة محاكمة الوسطاء من رجال الدين.

قال: الحاجة وكما تحملها الكلمة تختلف من شخص لآخر حسب الثقافة والظروف والمكان والزمان والتقاليد والمستوى الاجتماعى وما إلى ذلك. والمقصود من المحاكمة ليس المعنى الحرفى للكلمة ولكن المعنى الرمزى لها، وبمعنى التحرر من هؤلاء الوسطاء.

والأصح وهو المتوقع مع مرور الزمن أن تقل هذه الحاجة كلما تطور وتنور الإنسان وكلما حاول فهم الإله والتقرب منه مباشرة بقدرة ومنطق العقل ليحقق فى النهاية استقلالا نسبيا لوجوده يكمل به التجربة الإنسانية. وسيكون الإله فخورا بنجاح تجربته فى هذه المرحلة.

قلت : …………………………….

مهندس/ محي الدين غريب

كوبنهاجن- الدنمارك

محي الدين غريب

مهندس/ محي الدين غريب
كوبنهاجن - الدانمارك
زر الذهاب إلى الأعلى