عندما قابلته فى المرة الأولى .. منذ عامين كان صديقى د. أد ، كما كنا نسميه بدلا من “أدوارد” حزينا مكتئبا لأن مشروعه العملاق لم يحظى القبول ورفض بغالبية الأصوات من مجلس إدارة المشاريع العليا.
ولكن فى هذه المرة قابلته إنسانا مختلفا مرحا ومتفائلا ، فلقد اجتاز المشروع المرحلة الأخيرة بعد الموافقة بالإجماع وبعد أن توفر 30% من الميزانية المقررة له ، وعليه فلقد توفر الشرطان الأساسيان لمثل هذه المشاريع العملاقة.
أخيرا تحققت أمنية حياتة وعين المدير المنفذ للمشروع ليكلل مجهود أكثر من 25 عام من الأبحاث والتجارب. مجهودا أختلط فيها الحلم والخيال والحقيقة والأمل والاحباط مرارا وتكرارا لهذه الفكرة الرائعة لتتحول أخيرا من الخيال العلمى إلى حيز التحقيق العملى.
كنا جميعا قرأنا وسمعنا ولسنين طويلة مقالات ونقاشات وحوارات وتفاصيل كثيرة عن هذه الفكرة الغريبة. ولكن الشيئ مختلف عندما تأتى الفرصة أن تسمع هذه التفاصيل والحقائق مباشرة من صاحب هذه الفكرة صديقنا العالم د.أد. لذا اجتمعنا اليوم هنا مع أصدقاء وعلماء للوقوف على آخر الأخبار، وبعد أن بادرناه بالتهنئة تركنا له المجال للتحدث ، قال : لن أدخل فى التفاصيل العلمية المعقدة فسيأتى دورها فى الوقت المناسب إذا أقتضى الأمر.
الفكرة جاءت طارئة فى منتصف القرن الواحد والعشرين لتنتقل من الخيال العلمى البحت إلى الخيال الذى يمكن تحقيقه ، وكنت أحيانا أتعجب كيف فاتت هذه الفكرة علينا جميعا بينما هى منطقية جدا.
وأستطرد بعد أن رشف بعض من قهوته ، ربما لانشغالنا كعلماء ومفكرين بأشياء كثيرة هامة أخرى ، وربما بسبب التكاليف الخيالية المقدرة لهذا المشروع فى ذلك الوقت والمدة الطويلة جدا للحصول على بعض النتائج.
أين تذهب صورة اللحظة التى تمر بمجرد أن تأتى لحظة لاحقة. إذا أغمضت عينيك عن منظر متحرك للحظة واحدة ثم فتحتها مرة أخرى فإنك ستكون أمام منظر جديد يخفى وراءه المنظر السابق.
لابد أن صورة هذه اللحظة السابقة إما أنها قد سجلت فى مكان ما فى ذاكرة التاريخ بعين الطبيعة ، أو أنها تحللت وتناثرت عبر الأثير.
كانت الخطوة الأولى هى كيفبة العثور على هذه الصورة اللحظية ثم تحليلها ثم ترتيبها وتصنيفها ، قال ذلك وكأنه يحاول اللحاق بشيئ ما سيفلت منه عبر الأثير.
صديقنا د.أد لاحظ التساؤل على بعض الوجوه فتوجه إلى إحدى الصديقات ، فقالت له : معذرة نحن نعرف أن الأبحاث تقدمت كثيرا فى العثور على مكونات هذه اللحظة وهى مبعثرة بشكل عشوائى فى الأثير ، ما يثير الترقب والاندهاش هو كيفية ترتيبها زمنيا لتتوافق مع تردد الصوت.
قال د.أد وكان يتوقع مثل هذا السؤال ، لقد أستغرق البحث والعمل فى هذه الجزئية معظم الوقت إذ أنها أدق وأكثر المراحل حساسية ، فترتيبها يعنى ربط ذبذبة أو تردد اللحظة بالمكان ، وهو شيئ ليس سهل كما يبدو ، إذ أن كل جزء من اللحظة له تردد خاص منفرد يجب التعرف عليه قبل تحويله إلى صورة مرئية. ولكن لحسن الحظ فلقد تم أكتشاف المنحنى المشترك الذى تمر به هذه الترددات المنفردة.
حتى الآن لم نستطع إلا إستحداث ذاكرة التاريخ القريب فى حدود متواضعة. ولكنها مسألة وقت وجهد ، لأن التقاط هذا النوع من الموجات تتداخل فيه أعداد هائلة من الموجات المختلفة التى اكتشفها الإنسان أو استنبطها منذ اختراع الكهرباء ، أى منذ حوالى القرن الثامن عشر.
قال أحد المجتمعين : أهذا يعنى أن التقاط ذاكرة التاريخ لما قبل ذلك سيكون أسهل ؟ مثلا صور للفراعنة المصريين وهم يبنون الأهرامات ، أو كيف كان يعيش الإنسان فى العصر الحجرى.
رد قائلا : لا بل على العكس ، لأن مكونات الموجات الكهرومغناطسية وغيرها من المكونات التى اخترعها الإنسان مؤخرا هى التى ستكون الوسيط الأساسى لتقنية إستحداث أو التقاط ذاكرة التاريخ الحديث بينما نفتقد الوسيط لالتقاط القديم منها.
ولذلك تجرى الأبحاث لدراسات موسعة للتعرف على الموجات الكهرومغناطسية الطبيعية الناجمة عن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير وغيرها التى حدثت فى العصور الأكثر قدما حتى يمكن التعرف عليها وإعادة استخدامها كوسيط عند إستحداث أو التقاط ذاكرة التاريخ القديم.
ولا أخفى عليكم أن هناك آمال تتعلق بتقنيات جديدة قد توفرها لنا الموجات العاكسة الناجمة عن الانشطار الشمسى الذى حدث مؤخرا. ورب ضارة نافعة كما نقول ، إذ أن الموجات العاكسة وكما نعرف لها اضرار جسيمة على كل مظاهر الحياة والمحاولات جارية للتخلص منها أو تجنب وصولها إلى الأرض ، ولكن علميا يمكن أن تكون نافعة فى أغراض اخرى كثيرة.
إذا تحقق نجاح الجوانب المتبقية من هذا المشروع العملاق ، فسنكون أمام عصر جديد من العلم والمعرفة ينقلنا نقلة نوعية تعود بالفائدة على الجنس البشرى.
لا أود أن أكون متفائلا لهذه الدرجة ، لأن مشروع التقاط ذاكرة الزمن له أبعاد متشعبة وغاية فى التعقيد. ولأن الوقت لايتسع للتفاصيل فسأتناول بعيدا عن النواحى الاجتماعية والسياسية فقط الناحية التاريخية.
إذا نجحنا تماما فى هذا المشروع فإن هذا يعنى أننا سنعيد رؤية الماضى والتاريخ . ولكن ماذا لو لم يتطابق ماحدث بالفعل عما أورخ وكتب وتعلمناه فى كتب التاريخ أو فى الكتب الدينية ، هل سيعدل ما كتب ليحذف ما به من أخطاء. ماذا عن ما ترتب على هذه الأخطاء عبر العصور من حروب وأزامات وظلم وتعديات ، هل سيعاد تقسيم العالم من جديد بناء على ما جد من حقائق. وهل سيلتزم الإنسان أخلاقيا وعلميا عندما يقوم بتصحيح هذه الأخطاء.
إن مجرد التفكير فى مثل هذه الأمور ربما يؤدى إلى إشعال حروب بين الدول ويثير مواجع الإنسان مرة أخرى تجاه أشياء كان قد عفى عنها الزمان ، فهل سيعفى عنها العلم والعلماء.
هل ستعترف جميع الدول بهذه التقنية الحديثة وهل ستوافق على تطبيقها ، وكيفية ذلك ، وما هى الحدود ، ومن المسئول ، ومن له الحق فى التنفيذ ، وماهى الآليات ، وما هى ضمانات عدم الاستغلال. وهكذا الكثير من الأسئلة.
عشرات بل المئات من التعقيدات والاعتبارات لابد من التدقيق والتمحيص فى كل تفاصيلها قبل التصديق على مثل هذا المشروع الهام.
د. أد سرح بعض الشيئ وكأنه ندم على أنه أفسد علينا تشوقنا بسرد تشاؤماته عن العواقب التى قد تكون ، مع أنه صاحب الفكرة وهو الذى أفنى حياته فى سبيل تحقيقها. ولكنه عاود الكلام ثانية بنبرة متفائلة وبضرورة أن ينتصر العلم فى النهاية وأن يتحقق هذا المشروع. ولكن أكد أيضا بضرورة الالتزام بمواثيق وشروط يتم الاتفاق عليها.
الآن يمكنكم إفساح ولو القليل من خيالكم للبحث عن أهمية وميزات وعيوب هذا المشروع ، وهل يمكن أن يعود على البشرية ببعض من التقدم والاستفادة من أخطاء الماضى ، هذا على فرض أن بالماضى أخطاء ، وأختتم د.أد ندوته مداعبا بهذه العبارة.