العودة للوراء …
عندما أشاهد الأخبار عن أوكرانيا هذه الأيام، أكاد أصدق ولو للحظة قصيرة أنها مشاهد من أفلام قديمة عن الحرب العالمية الثانية، تلك الأيام التعيسة عن ما فعله هتلر وحلفاؤه مع دول الجوار.
لم يكن فى الحسبان ونحن فى القرن الواحد والعشريين أن تقوم دولة أوروبية بإحتلال جارتها الأقرب بهذه الوحشية والضراوة وتشريد الملايين وقتل المئات والتهديد بحرب نووية، سلوكيات تتنافى مع قيم التحضر التى تدعيها الدول العظمى سواء كانت روسيا أو أمريكا.
الفكر الإستعمارى الروسى الذى يتحجج أن أوكرانيا ليست دولة وانها أرض روسية منذ انتزعها قيصر روسيا من بعض القبائل فى أواخر القرن 17 ، لا يزال يقبع عند السياسين فى روسيا ورئيسهم بوتين الذى يطمع فى أوكرايينا لأنها حدودية وشاسعة وغنية بثروات طبيعية هائلة، ولأنها تتحكم في بحر آزوف والبحر الأسود.
ومنذ رئاسة بوتين فى 2000 للبلاد بدأت الصراعات فى المنطقة، ففى 2003 أجتاحت ودمرت القوات الروسية شيشنيا، وفى 2008 أحتلت جورجيا وأبجازيا، وفى 2014 وبعد الإطاحة بالحكومة الأوكرانية الموالية للكرملين، احتلت جزء من أوكرانيا وضمت القرم، وفى 2015 حاربت مع دكتاتور سوريا ضد السوريين، ثم فى 2022 مرة أخرى العدوان على أوكرانيا بعد قرار بوتين بالاعتراف بدونيتسك ولوجانسك جمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا.
وحجة بوتين هذه المرة، أن أوكراينا تحولت لبؤرة عداء لروسيا ومركز تجسس للناتو والغرب، كما أن الغرب يحرضها لتصبح عضو فى حلف الناتو، مما سيكون تهديدا مباشرا على روسيا وحلفاؤها فى المنطقة بسبب الحدود الملاصقة لهم.
إن فكرة أن كل دولة لها حدود مع دولة عظمى (مثل أوكرانيا أو فلندا او دول البلطيق أو المكسيك أو كندا وغيرها) عليها أن تخضع لنظام الدولة العظمى المجاورة وليس لها الحق فى إختيار النظام الذى يريده شعبها، هى فكرة خاطئة بكل المقاييس، لأن هذا يعنى إستعمارا وبلطجة تعيدنا إلى الوراء. وحجج وأوهام الدول العظمى الخوف على مصالحها من التجسس عليها والحدود الآمنة والتوازن الإستراتيجى وما إلى ذلك، هى حجج واهية، حيث الآن توفر التكنولوجيا حلولا متعددة لدحض هذه الأوهام ( كوريا الشمالية وهى على بعد آلاف الأميال يمكنها قصف صواريخ على أمريكا). وهو ليس حلا عمليا، إذ عندما تحتل روسيا أوكرانيا فستكرر المشكلة لاحقا مع الجار الجديد لأوكرانيا،
بمعنى انه سيكون الدور على بولندا أو وسلوفاكيا أوالمجر أو رومانيا، فأين تنتهى الحدود الآمنة المزعومة.
لذلك فأن المنطق يؤكد أن روسيا ستخسر المعركة السياسية وأيضا المعركة العسكرية وفى المستقبل القريب ستنفصل عنها عددا من جمهورياتها التى تطلع إلى ديمقراطية الغرب لتتحرر من الدكتاتورية، وفى المستقبل البعيد ستخسر أيضا المعركة الإقتصادية بسبب توجه أوروبا إلى مصادر أخرى للغاز والقمح حتى لا تكون تحت تهديد روسيا مثلما يحدث الآن.
بالطبع من يساند روسيا فى العدوان مباشرة، هى الأنظمة الدكتاورية العسكرية المتبقية (فقط اربعة دول)، ومن يتعاطف معها بطريقة غير مباشرة هى إما الأنظمة السلطوية أو من لها مصالح إقتصادية أهم من السلام العالمى واهم من القتل والتشريد، وبالطبع يساعد اعلامها الموجه تضليل شعوبها.
إن هزيمة العدوان غير المبرر والعودة للوراء لابد أن يكون تحصيلا حاصلا لصالح الإنسانية ونحن فى القرن الواحد والعشريين، وهو ما سنراه فى الأسابيع القليلة القادمة.
مهندس / محي الدين غريب
كوبنهاجن – الدانمارك